الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما ذكر حالها في الاعتراف بالبطلان، ثم الفزع إلى الزور والبهتان، أتبعه التمني الذي لا يفيد غير الخسران، فقال: {أو تقول} أي تلك النفس المفرطة {حين ترى العذاب} أي الذي هاجمها للرحمة أو النقمة: {لو أن} أي يا ليت {لي كرة} أي رجعة إلى دار العمل لأتمكن منه {فأكون} أي فيتسبب عن رجوعي إليها أن أكون {من المحسنين} أي العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن، هذا الإعراب- وهو عطفه على الجواب- أوفق لبقية الآيات التي من سلكه.ولما حذر سبحانه بما يكون للمأخوذ من سيىء الأحوال وفظيع الأهوال، وكان معنى ما تقدم من كذبه وتمنيه أنه ما جاءني بيان ولا كان لي وقت أتمكن فيه من العمل، قال تعالى مكذبًا له: {بلى} أي قد كان لك الأمران كلاهما {قد جاءتك} ولفت القول إلى التكلم مع تجريد الضمير عن مظهر العظمة لما تقدم من موجبات استحضارها إعلامًا بتناهي الغضب بعد لفته إلى تذكير النفس المخاطبة المشير إلى أنها فعلت في العصيان فعل الأقوياء الشداد من التكذيب والكبر مع القدرة في الظاهر على تأمل الآيات، واستيضاح الدلالات، والمشي على طرق الهدايات بعد ما أشار تأنيثها إلى ضعفها عن حمل العذاب وغلبة النقائص لها فقال: {آياتي} على عظمتها في البيان الذي ليس مثله بيان في وقت كنت فيه متمكنًا من العمل بالجنان واللسان والأركان {فكذبت بها} جرأة على الله وقلة مبالاة بالعواقب {واستكبرت} أي عددت نفسك كبيرًا عن قبولها {وكنت} أي كونًا كأنه جبلة لك لشدة توغلك فيه وحرصك عليه {من الكافرين} أي العريقين في ستر ما ظهر من أنوار الهداية للتكذيب تكبرًا لم يكن لك مانع من الإحسان إلا ذلك لا عدم البيان ولا عدم الزمان القابل للعمل.ولما كان قد تعمد الكذب عند مس العذاب في عدم البيان والوقت القابل، قال تعالى محذرًا من حاله وحال أمثاله، ولفت القول إلى من لا يفهمه حق فهمه غيره تسلية له وزيادة في التخويف لغيره: {ويوم القيامة} أي الذي لا يصح في الحكمة تركه {ترى} أي يا محسن {الذين كذبوا} وزاد في تقبيح حالهم في اجترائهم بلفت القول إلى الاسم الأعظم فقال: {على الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال بأن وصفوه بما لا يليق به وهو منزه عنه من أنه فعل ما لا يليق بالحكمة من التكليف مع عدم البيان، ومن خلق الخلق يعدو بعضكم على بعض من غير حساب يقع فيه الإنصاف بين الظالم والمظلوم، أو ادعوا له شريكًا أو نحو ذلك، قال ابن الجوزي: وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل- انتهى، وكأنه عنى المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم: إنهم يخلقون أفعالهم، ويدخل فيه كل من تكلم في الدين بجهل، وكل من كذب وهو يعلم أنه كاذب في أيّ شيء كان، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله لا يعلم كذبه أو لا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله- تراهم بالعين حال كونهم {وجوههم مسودة} مبتدأ وخبر، وهو حال الموصول أي ثابت سوادها زائد البشاعة والمعظم في الشناعة بجعل ذلك إمارة عليهم ليعرفهم من يراهم بما كذبوا في الدنيا فإنهم لم يستحيوا من الكذب المخزي، أليس ذلك زاجرًا عن مطلق الكذب فكيف بالكذب على الله الذي جهنم سجنه فكيف بالمتكبرين عليه {أليس في جهنم} أي التي تلقى فيها بالتجهم والعبوسة {مثوى} أي منزل {للمتكبرين} الذي تكبروا على اتباع أمر الله. اهـ.
وهو يريد أفواجًا من الكرام ينصرونه لا كريمًا واحدًا، ونظيره: رُبَّ بلدٍ قطعت، ورُبَّ بطلٍ قارعت، ولا يقصد إلا التكثير.{يَا حَسْرَتَا} والأصل يَا حَسْرَتِي فأبدل من الياء ألف؛ لأنها أخف وأمكن في الاستغاثة بمد الصوت، وربما ألحقوا بها الهاء؛ أنشد الفراء: وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف؛ لتدل على الإضافة.وكذلك قرأها أبو جعفر: {يَا حَسْرَتَايَ} والحسرة الندامة.{على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} قال الحسن: في طاعة الله.وقال الضحاك: أي في ذكر الله عز وجل.قال: يعني القرآن والعمل به.وقال أبو عبيدة: {في جنب الله} أي في ثواب الله.وقال الفراء: الجنب القرب والجوار؛ يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره؛ ومنه {والصاحب بالجنب} [النساء: 36] أي على ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة.وقال الزجاج: أي على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه.والعرب تسمي السبب والطريق إلى الشيء جنبًا؛ تقول: تجرعت في جنبك غصصًا؛ أي لأجلك وسببك ولأجل مرضاتك.وقيل: {في جَنْبِ اللَّهِ} أي في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله عز وجل وثوابه، والعرب تسمي الجانب جنبًا، قال الشاعر: يعني الناس من جانب والأمير من جانب.وقال ابن عرفة: أي تركت من أمر الله؛ يقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتي؛ قال كُثَيِّر: وكذا قال مجاهد؛ أي ضيعت من أمر الله.ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما جلس رجل مجلسًا ولا مشى ممشى ولا اضطجع مضطجعًا لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه تِرَةً يوم القيامة» أي حسرة؛ خرجه أبو داود بمعناه.وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي أتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره، قد ورثه وعمل فيه بالحق، كان له أجره وعلى الآخر وزره، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوّله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة من الله عز وجل، أو يرى رجلًا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو.{وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول في الدنيا وبأولياء الله تعالى: قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.ومحل إِن كنت النصب على الحال؛ كأنه قال: فرطت وأنا ساخر؛ أي فرطت في حال سخريتي.وقيل وما كنت إلا في سخرية ولعب وباطل؛ أي ما كان سعيي إلا في عبادة غير الله تعالى.قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ} هذه النفس {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي} أي أرشدني إلى دينه {لَكُنتُ مِنَ المتقين} أي الشرك والمعاصي.وهذا القول لو أن الله هداني لاهتديت قول صدق.وهو قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الرب جل وعز عنهم في قوله: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] فهي كلمة حق أريد بها باطل؛ كما قال عليّ رضي الله عنه لما قال قائل من الخوارج لا حكم إلا لله.{أَوْ تَقُولَ} يعني هذه النفس {حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} أي رجعة.{فَأَكُونَ} نصب على جواب التمني، وإن شئت كان معطوفًا على {كَرَّةً} لأن معناها أن أكر؛ كما قال الشاعر: وأنشد الفراء: فنصب وتسأل على موضع الذكرى؛ لأن معنى الكلام فمالك منها إلا أن تذكر.ومنه للبس عباءة وتقرّ؛ أي لأن ألبس عباءة وتقرّ.وقال أبو صالح: كان رجل عالم في بني إسرائيل وجد رقعة: إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة؛ فقال: ولأي شيء أتعب نفسي فترك عمله وأخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله؛ ذهب عمري في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم؛ فأنزل الله خبره في القرآن.وقال قتادة: هؤلاء أصناف؛ صنف منهم قال: {يا حسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله}.وصنف منهم قال: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين}.وقال آخر: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} فقال الله تعالى ردًّا لكلامهم: {بلى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} قال الزجاج: {بَلَى} جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي، ولكن معنى {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} ما هداني، وكأن هذ القائل قال ما هدِيت؛ فقيل؛ بلى قد بيّن لك طريق الهدى فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن.
|